إطلالة مصطفى عمر التير

في مساحة تنشر فيها الجمعية نصوص ذات دلالة، اخترنا مقتطفاً من حوار لعالم الاجتماع الليبي مصطفى عمر التير الذي ينتمي الى جيل مؤسسي الجمعية العربية لعلم الاجتماع وكان اميناً عاماً لها لزمن طويل:لا أعتقد بوجود مساهمة ذات بال لعلماء الاجتماع العرب في صنع ورسم السياسة الاجتماعية في بلدانهم وذلك بسبب رئيس وهو أن عالم الاجتماع العربي يعيش إما حالة من الاندماج الكامل في النظام السياسي، أو حالة من الانزواء بالنسبة لمن اختار التمسك بمبدأ الاستقلال والابتعاد عن تيار النفاق، وهو تيار واسع يتسع لأفراد من مختلف فئات المجتمع. قد تكون النسبة المشاركة في النظام السياسي وهي صغيرة مساهمة في بعض ما يضعه النظام من برامج. لكن غالبية علماء الاجتماع العرب لا يحتلون مراكز في مجتمعاتهم تسمح بالمساهمة في وضع سياسات مستقبلية. جرت العادة في مجتمعات كثيرة أن ترجع مؤسسات الدولة إلى المتخصصين والخبراء ومن بينهم علماء الاجتماع لاستشارتهم أو تنفيذ أبحاث تفعل نتائجها فيما بعد للتعامل مع أوضاع قائمة على أرض الواقع، أو للوصول إلى أهداف مستقبلية. المجتمع العربي المعاصر مجتمع له خصائص وظروف تجعله مختلفا عن مجتمعات أخرى. لعل من بين أهم هذه الخصائص وجود قادة وحكام يؤمنون بالحكم المطلق للفرد إيمانا لا يكاد يعادله إيمان آخر. ومع ذلك يصرون على الحديث عن الديمقراطية كشعار، لأن ما يوجدونه من مؤسسات ذات صفات تشريعية وإدارية ورقابية ما هي إلا لافتات لبيوت خالية. وبغض النظر عن الاسم الذي اختاره لنفسه فإن نظام الحكم في الواقع عبارة عن نظام ملكي وراثي ومطلق. بالإضافة إلى ذلك، يتميز الحاكم العربي بأنه شخص أعطي الحكمة كلها، وأنه شخص بعث به القدر لإنقاذ شعبه. فالحاكم مفكر ومعلم وفيلسوف ومهندس وخبير تربوي وخبير اقتصادي وخبير اجتماعي ورجل قانون، وباختصار هو المرجع في كل شيء، وقادر في نفس الوقت عن التعبير عن مشاعر ورغبات وآراء جميع أفراد الشعب. كما بلي المجتمع العربي وفي كل جزء منه بكم غير قليل من المواطنين الذين تفننوا بالقيام بأدوار اجتماعية من نوع خاص. عددت من هذه الأدوار في ورقة نشرتها في يوم من الأيام ستة أطلقت عليها الأسماء التالية : ( التلتال ، اللقاق ، البروال ، الهرواك ، الزمزاك، والهتيف ) . هذه أدوار اجتماعية مختلفة يمكن أن يقوم بها أي فرد يحتل أي مكانة اجتماعية، لكنها تشترك في خصائص رئيسة أهمها أن متبني الدور يمكن أن يقوم بأي فعل غريب ومستهجن ولكن لا يجرمه القانون. ودون الدخول في التفاصيل تتمثل مناشط الدور الذي يقوم به من يتبناه بالمبالغة في النفاق والتزلف والكذب المعبر عنه في المناسبات العامة التي يجتمع فيها جمهور. وهي مبالغة في النفاق والكذب والتزلف الموجه نحو الحاكم. وترتفع وتيرة شدة الدور بوجود الرئيس في التجمع وبحجم التجمع. حيث يتفنن مؤدوا الدور في إسباغ الصفات العابرة ليس للأقطار أو القارات ولكن للأزمنة أيضا. فالحاكم قائد لم تلده إمرأة، ولم تعرفه بلد من قبل، ولم يظهر في زمن سابق، وإذا اشتدت الوتيرة فالقول بأن الزمان لن يجود بمثله يصبح شعارا غير مستبعد. وهو كذلك في حالة كل صفة محببة قد تخطر على بال إنسان مثل الملهم والمبدع والشامخ والمعلم والمنظر والحكيم والمهندس والبطل والمنتصر. وكما هو معروف في أدبيات علم النفس فإن الفرد يكون صورته عن نفسه على ضوء تصوره للصورة التي يرسمها الآخرون له. وعليه فقد يبدأ الحاكم بشخصية بسيطة متواضعة وقريبة لأبناء الشعب. لكن ما أن تبدأ جوقة المنافقين في العزف حتى يتغير الوضع وشيئا فشيئا يتقمص الحاكم الشخصية التي تعدها جوقة المنافقين، ويصبح سلوكه معبرا عن هذا التصور الجديد. وينتهي بصورة الدكتاتور الكامل؛ ونعني هنا الشخص الذي ينشرح صدره لسماع كل إطراء مهما ارتفعت درجة المبالغة، ولا يقبل أي شكل من إشكال الرأي المخالف مهما تدنت وتواضعت درجة الاختلاف. ولا يبقى أمام الرعية إلا الدعاء بأن يكون دكتاتورهم من نوع المستبد العادل. وتزخر أدبيات اللغة العربية بوصف هذه الشخصية ( المستبد العادل ). وفي مجتمع يقوده حاكم هذه صفاته لا ينمو مجتمع مدني، ولا يتكون رأي عام بالمعنى الحقيقي. وإذا غاب هذان البعدان يصبح تأثير العلماء وخصوصا في مجال العلوم الاجتماعية جد محدود، إلا من فضل منهم الالتحاق بفرق المطلبين والمزمرين ومزوري التاريخ، وقد يحصل المجتهد منهم في هذه الحالة على مكان في الصدارة فينال الرضى ويحصد المكافئات المادية.********عندما اتفقت نخبة من علماء الاجتماع العرب على إنشاء جمعية تحمل هذا الاسم كانت تطلعات هؤلاء كبيرة من حيث أن جمعية من هذا النوع ستجمع حولها أغلب المتخصصين في مجال علم الاجتماع العرب ، وأنها ستنجح في لفت انتباه مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية بحيث تقدم للجمعية الناشئة الدعم المالي والمعنوي، وستنجح في تنظيم عدد من المناشط سنويا تعمل على الرفع من مستوى علم الاجتماع في هذا الجزء من العالم. لقد نجحت الجمعية خلال سنواتها الأولى من الحصول على حوالي ثلاثمائة اشتراك، وتنظيم عدد من اللقاءات الثقافية إلى جانب المحافظة على تنظيم لقاء سنوي يحمل عنوان لقاء الأجيال. لكن وبعد مرور سنوات تقلص عدد المنتسبين وواجهت الجمعية صعوبات كثيرة في الحصول على الدعم المالي الضروري لتنفيذ مختلف المناشط خصوصا وأن الجمعية أرادت منذ البداية أن تكون مستقلة وألا تعمل تحت مظلة أي نظام عربي رسمي. ومع كل هذا نجحت الجمعية في تنظيم على الأقل ندوة أو ورشة عمل سنويا.عموما يمكن القول أنه نظرا لتدني الإمكانات المالية للمتخصصين العرب في علم الاجتماع فإن العمل العربي المشترك في هذا المجال يبقى أمرا صعبا.الجمعية العربية لعلم الاجتماع هي إحدى مؤسسات المجتمع المدني. ويفترض في هذه الحالة أن تنجح في عدم اللجوء إلى دولة للحصول على دعم مالي ثابت. لكن الموجود في الوطن العربي هو أن المواطن العادي من أمثال المتخصص في علم الاجتماع شخص لا يملك من المال ما يسمح له بتقديم دعم مالي مهم لجمعيته لكي لا تحتاج إلى مد يدها إلى نظام رسمي أو لمؤسسة غير عربية مشبوهة.المصدر: حوار مع التير اجراه حميد الهاشمي ونشر بمجلة علوم انسانية WWW.ULUM.NL السنة السادسة: العدد 40: شتاء 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *