إطلالة علي الكنز

في مساحة تنشر فيها الجمعية نصوص ذات دلالة، اخترنا مقتطفاً من آخر نص كتبه عالم الاجتماع الراحل علي الكنز قبل ان يلاقي الموت وجها لوجه، والذي كان من جيل المؤسسين في الجمعية العربية لعلم الاجتماع:من أزمة السكن إلى أزمة المقابر!دُفنت أمي في هذه المقبرة، وكنت أفكر دوما أن أختم حياتي على هذه الأرض، التي أعرفها جيدا، حتى وأنني اخترت، وكساذج، المكان الذي أريد أن أستريح فيه، ليس بعيدا جدا عن قبرها، بجوار الجدار الذي يفصل عن مدينة الأحياء، ولكن ولسوء الحظ تم إغلاق القُبية، بسبب الاكتظاظ.دخلت الحياة العملية مع أزمة السكن، وبعد أربعين سنة أغادر مع تلك الأزمة التي تتعلق بالمقابر. صحيح تمّ افتتاح مقبرة أخرى في الزفزاف، لكنني لم أحب أبدا هذه المنطقة من المدينة، كانت مكبّ نفايات سابقا، وهي ملوثة أيضا بطيران وضجيج الطيور الزبّالة. لا أرغب بتاتا أن أقضي حياتي الأبدية هنالك. تشبه مقبرة الزفزاف إلى حد كبير الأحياء الجديدة، المجهولة الهوية، والباردة، والتي هي “بلا روح” إذا جاز التعبير. ومن الغريب أنْ تُحاكي المقابر الجديدة المستوطنات الحضرية الجديدة، هنا مواقف للأحياء، وهناك مواقف للموتى. أذهلني نبأ إغلاق القبية وسألت أخي الذي بقي في بلدتنا “إذا … لم يكن هناك سبيل إلى…” ، أجاب بما يُخيّب الآمال: “هناك القليل..، من بين “أعيان” المدينة، الذين تم منحهم تفويضا لدفن أحد أقربائهم، ولكن يجب أن تكون نافذا للحصول على هذا الامتياز”.إذن دورة الأزمات لم تنته؟ في شبابي كان المسكن، واليوم القبر، وماذا سيكون الحال غدًا. ولكن، صحيح، ما بعد القبر ليس هناك من غدٍ. لقد فاتتني بدايتها، وكنت وسأفتقد النهاية… يا لها من رحلة حزينة!لذا، ومن أجل التهدئة، ومن خلال الترشيد ولتخفيف الانزعاج شرعت في اختراع الأسباب: صحيح في سكيكدة سيأتي أطفالي قليلا لزيارة قبري، الجزائر العاصمة سهلة الوصول بشكل أكبر؛ إذن اذهب إلى الجزائر. ولكن هناك أيضًا جميع المقابر مُشبَّعة، خاصة تلك الأجمل حسب ذوقي، والتي تقع على التل المفتوح على البحر، والمغطاة بأشجار صغيرة… وعلى مضض، فكرت في الحل الأقصى: لماذا أتعب نفسي بالبحث عن حلٍ غير موجود في سكيكدة أو الجزائر أو أي مكان آخر في الجزائر، ففي كل مكان تطرح نفس المشكلة؛ قد ينتهي بي الأمر هنا في فرنسا. حيث يتم تجنب متاعب نقل الجسد، وبالنسبة للأطفال ستكون الزيارات أيسر؛ ولا يوجد نقص في الأماكن المبهجة والحمد لله!.صراعات قاسية ووحشية … لأن الشهية نَهمةيا لها من سخرية أو بالأحرى من حالة بؤس، أصبحت عليها الجزائر! حياة سيئة، على الأقل كنت سأفهم: نحن نقول “النضال من أجل الحياة”، و”الصراع الطبقي”، وهنا فإنّ هذه النضالات قاسية ووحشية، ولا ترحم، لأن الشهية نهمة شرهة، كما أنّ قواعد احتوائها هشّة؛ لكن “الكفاح من أجل الموت”، من أجل مجرد مربع صغير من الأرض من أجل الراحة؛ قد جرفته أيضا نفس الديناميكية الاجتماعية وما يعتريها من فوضى!. إذا لم تعد العادات القديمة كافية فلماذا لا يوجد قانون، حتى لو كان رأسماليًا لتنظيمه، أو الأفضل سجلاً للأحياء يمنح “الأفضلية للمحليين”.وهآنذا، وفي حالة من الغيظ أحاول تخيل الحلول لهذه الأزمة التي تُردي بغيرها في اللامبالاة العامة. وهذا يقاس من خلال صيانة المقابر، أو بالأحرى من خلال هجرها من قبل “السلطات المحلية” (les Zôtorités locales )، بل وأكثر من ذلك، من طرف السكان أنفسهم. آه! من هؤلاء “الأقدام السوداء” الذين لم يفهموا بعد أن موتاهم ومقابرهم لا تتعرض “للتمييز” أكثر من مقابرنا! أننا جميعًا في نفس المكان، أي في نفس الهجر!كتب أبو العلاء المعري في مكان ما، أقتبسه من ذاكرتي: أحترمْ الأرض التي تمشي عليها، فالغبار الذي على قدميك يحتوي رُفات أسلافك. كان الشاعر اللاّمع يدري ما كان يتحدث عنه، هو الذي كتب “رسالة الغفران”، حيث نقلنا إلى ما وراء عالم الأحياء ليستهزئ بسخريةٍ من البناء الخيالي لعالم الموتى، أولئك الذين يجب عليهم يومًا ما أو آخر الالتحاق به.رغم انتقاده من طرف المتشددين، الأوصياء على النظام الديني الذين عاتبوه لمساسه لما هو من الدين بالضرورية، في نظرهم، من أجل الإخضاع بـ “الخوف” لهذا النظام، فإنني توجهت إليه لأفهم ما يحدث لنا اليوم؛ إذْ تخلى الأحياء عن الأموات، وتخلت “السلطات” عن المقابر، وكذلك فعل الناس العاديون، ولا يسعفنا التفسير الوضعي الذي قد يرجع سبب ذلك إلى “التنظيم السيئ” أو إلى “أزمة العقار الحضري”، أو مثلما يعتقد “العلميون” إلى ارتفاع معدل الوفيات وما إلى ذلك. نحن بحاجة للذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير، سواء بالنزول إلى أعماق الطبقة السفلية الأنثروبولوجية أو بالصعود إلى أعلى نقطة في حضارتنا لفهم عدم الاكتراث الحديث جدًا بمثوى أمواتنا.هجر الأحياء للأمواتصحيح ففي جميع أنحاء ما يسمى بالعالم الحديث، نجم عن عدد الموتى “الازدحام”؛ فهم يشغلون مساحة كبيرة في المدن أو في بعض ضواحيها؛ وعندما يرتفع سعر العقارات تزداد المضاربات العقارية؛ وفي كثير من البلدان فإن سعر شراء القبر أو إيجاره ليس استثناءً. وينطبق الشيء ذاته على المواكب والمراسم الجنائزية التي يجب أن تكون سرية وقصيرة وسريعة حتى لا تزعج حركة الأحياء أو هدوء الجيران.في كل مكان نقوم بترشيد ما كان مقدسًا: فمن خلال حرق الجثث نُقلِّل من حجم المتوفى، وبالتالي تقل تكلفة الحفاظ عليه. وفي مكان آخر يحق لنا الحصول على قبر حقيقي، ولكن لبضع سنوات فقط قبل عملية النقل إلى حفرة تابعة للبلدية إلخ. وعليه، قرر صديقي، وهو أستاذ متقاعد من جامعة نيويورك “الهجرة” في هذا الجزء الأخير من حياته إلى الرباط: هنا، كما أخبرني، أرى المقبرة من شُرفتي. حيث سينتهي بي الأمر، ولن يطردني أحد لأن القانون يمنع ذلك. وعندما أزعجه بإخباره أنه سيأتي اليوم الذي سيتغير فيه هذا القانون مع “رسملة المقدس” يجيبني بهدوء، ربما، ولكنني لن أكون ساعتها هنا.في الواقع، من خلال تناول قضية أزمة المقابر هذه، ومقارنتها بغباء بقضية الإسكان، فتحت “صندوق الغرائب” « boîte de Pandore » الحقيقي. لقد قارنت ما لا يقبل المقارنة، قارنت “المقدس بالمدنس”، وهذا ليس “مفيدًا”، ولكن له قيمة رمزية لا تقدر بثمن مقارنة بالأشياء التي نستهلكها (أدوات، وطعام، وأدوية…إلخ) بما في ذلك المسكن الذي نحتاج إلى الدفع لسداد تكاليفه. إذن، في ميزان الواحد والآخر، المقبرة، والقبر، والموت باختصار، فمن الواضح أنها تُنسب إلى لا سعر له، ولكن قيمتها لا تُقدر بثمن.فهي تمنح وجودنا ككائنات حية بُعدًا أوسع بكثير من مدة حياة الإنسان، وهو البعد الذي يمكن للعلميين حسابه (توقع أمل ومتوسط العمر وما إلى ذلك) وتحسينه (الطب والتكنولوجيا الحيوية وغير ذلك) ولكن لا يمكنهم أن يمنحوا ذلك معنًى، أي سببًا للوجود. وهكذا تتعلق أزمة السكن بالدرجة الأولى بالمدنس، بالأسعار، والبضائع، والصراعات الاجتماعية التي أشعلتها، أما أزمة المقابر فهي موجودة في مكان آخر، ضمن ترتيب المقدس الذي أحالني إلى معنى الوجود الإنساني ذاته.المصدر: https://alhirak.com/article/sF5Y5vQNr475DiEp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *