إطلالة سمير أمين
في مساحة تنشر فيها الجمعية نصوص ذات دلالة، اخترنا مقتطفاً من حوار للمفكر الكبير والمناضل سمير أمين الذي يعد من أبرز وجوه المقاومة الفكرية التي أنتجها جنوب العالم، الجنوب بالمعنيين الحقيقي والمجازي، ضد كل اشكال الهيمنة التي تؤدي الى انخرام العالم وتخريبه وافساد الحياة فيه، حيث كرس جهوده الفكرية والاخلاقية والانسانية من أجل العدالة والمساوة والانعتاق. كما كان أمين من جيل المؤسسين في الجمعية العربية لعلم الاجتماع والحاضرين بكثافة في مسيرتها:لا شك أن تنفيذ سياسات الليبرالية الجديدة، وطنيا وإقليميا وعالميا، أدى خلال العقدين الأخيرين على الأقل إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية في كل أنحاء العالم، في الشمال والجنوب. من الطبيعي إذن أن يحدث أمام هذا التدهور إنعاشا للحركات الاجتماعية. ظهرت هذه الحركات، في المرحلة الأولى، كتجليات للاحتجاج ضد النتائج المترتبة على تنفيذ هذه السياسات. ثم بالتدريج وبدرجات مختلفة نضج الوعي السياسي الذي يربط بين هذه النتائج الاجتماعية وبين منطق سيادة رأس المال في المرحلة الراهنة والجوانب السياسية ومنها الهيمنة الأمريكية وعسكرة العولمة. وحققت هذه الحركات انتصارات ونجاحات، بمعنى أن نظم الحكم لا تستطيع الآن أن تتجاهل وجود هذه الحركات. هذه الحركة أدت إلى إسقاط بعض مشروعات الليبرالية المعولمة، كما رأينا مؤخرا في كانكون. ولكن بالرغم من هذه الانتصارات، إلا أنها لا تزال بعيدة عن بلورة بديل متماسك ومتكامل، على صعيد عالمي. على المستوى العالمي، يقوم نزاع بين أشكال التسيير السياسي- حتى المسماة ديمقراطية كما الشأن في البلدان الأوروبية – وكذا مقتضيات إنتاج النظام الرأسمالي مثلما الأمر حاليا، أي إدراك مرحلة الاحتكارات المعممة. أفرغت الديمقراطية من كل مضمونها، وصارت مجرد مهزلة. وإن احترمت بعض الحقوق كتعددية الأحزاب، فالتصويت لم يعد يغيرأمرا. اليوم، بلغ الكاريكاتور أقصى مستوياته كما توضح وكالات التصنيفات التي تسود السياسة. يظهر هذا النزاع بكيفية أكثر عنفا،في المناطق المحيطة. كما أن بعض البلدان مضطرة كي لا تكون ديمقراطية، مادامت تدير أوضاعا غير مقبولة ومرفوضة اجتماعيا. في الغرب، يمثل هذا التناقض والتنازع، نقطة تقارب ممكنة بين تنظيمات اليسار الراديكالي. هكذا، تُقدم على طبق من فضة، الشروط المحفزة لانبعاث أممية للعمال وكذا بين الشعوب جراء هذا التراجع للديمقراطية. أظن أن الرأي العام الأوروبي أدرك ذلك، لكنه عاجز عن معرفة ما يمكنه القيام به، ولا أعتقد بأنه يقبل قرارات وكالات التصنيف، المشار إليها سابقا، التي ليست شيئا آخر سوى مستخدمين يتبعون أوامر رأسمال الاحتكارات الكبرى. توظف تلك الوكالات وتسدد أجورها مباشرة من طرف الاحتكارات، مما يمنحها موقعا يجعلها تفرض نفسها كحزب يسود باقي الأحزاب الأخرى، ثم تمتلك وحدها كفاءة إرساء قواعد اللعبة، بمعنى الحدود التي يستحيل على الممارسة الديمقراطية اقتحامها. يطمح هذا الحزب الرهيب للرأسمال التمويلي، كي يفرض نفسه على الدول ويلزم سياساتها بالاستجابة حتما لمقتضيات استثنائية ترفع نحو أقصى مستوى ممكن، خلال وقت وجيز مردودية الاحتكارات !لاتستحضر تلك الوكالات أي معيار ثان قصد الحكم على ماهو ”ممكن”أو ليس كذلك. منح أدنى شرعية لسلطتها، يعني الاستسلام منذ الوهلة الأولى، لقبول الديكتاتورية الفظة وكذا التوجه الأحادي الجانب للرأسمال،الذي ينعت ب”مطلب السوق”.لكن الوقائع، توضح أن الخضوع لتلك المتطلبات يعمق الأزمة ولا يسمح بأي وجه ”الخروج منها”، مثلما تنشد الحكومات المعنية بالأمر. تقتضي كل سياسة بأن نلقي إلى القمامة ب”ملاحظات”تلك الوكالات. يمكننا إعادة صياغة السؤال مثلما ينبغي في إطار ديمقراطية تتسامى عن مآل المهزلة: تحديد المصالح الاجتماعية المتضاربة داخل المجتمع، وتشكيل اقتراحات ل”الصفقة الجديدة”(تسويات اجتماعية تاريخية) التي تستفيد من دعم اجتماعي واسع، بأن تفرض الشروط على الرأسمال التمويلي.يمكن لأزمة الديمقراطية هذه، تعبيد الطريق أمام فاشيات جديدة ناعمة،كما نلاحظ مع الجبهة الوطنية الفرنسية،ثم السلفيين في العالم الإسلامي مثلا.
المصدر:https://thakafamag.com/?p=13795
