إطلالة خلدون النقيب
في مساحة تنشر فيها الجمعية نصوص ذات دلالة، اخترنا مقالاً لعالم الاجتماع الكويتي خلدون النقيب الذي كتب عن التأزم السياسي العربي، وعن بنية الدولة التسلطية وتدميرها للتنمية والحياة الإنسانية في المجتمع العربي، والذي كان رئيسا للجمعية العربية لعلم الاجتماع…أيديولوجيا الديمقراطية في الصراع التاريخي:هل يكفي أن يكون قوم ما عدوانيون بشكل استثنائي سبباً في هيمنتهم على مقدرات الأقوام الأخرى؟ كيف يمكن أن نفسر هيمنة الأقوام الغربية على مقدرات العالم لثلاثة قرون متصلة: الثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرون، لقد ظهرت أقوام أخرى على مسرح التاريخ لا تقل بربرية في أهدافها.ولا تقل همجية في أساليبها عن الأقوام الغربية، ولم يكتب لها أن تديم هيمنتها على الأقوام الأخرى بالطريقة الشاملة العضوية التي فعل فيها الغرب ومازال.يجب أن نعترف أن من غير المتوقع أن نجد إجابة واحدة شافية بل إجابات عدة محتملة. لقد بدأت هيمنة الغرب بدورة تاريخية متصلة لم تعتمد فقط على النهب والتدمير وارتكاب المجازر.وهدم معنويات الأقوام الأخرى وامتصاص عنفوانهم، وإنما نجح الغرب في توظيف عدوانيته بأساليب التنظيم وطرق التفكير في إدارة الصراع التاريخي لم تسبقه إليه الأقوام الأخرى.فقد تضافرت عوامل عدة لإدامة هيمنة الغرب، بعضها بمحض الصدفة، وبعضها الآخر بسابق تصميم. فقد وجد الغرب في ايديولوجيا الديمقراطية طريقة في تمييز أنفسهم عن الآخرين، وأداة في حل الصراع الداخلي.وفيما بعد، مصادفة وسيلة لزعزعة المعايير الوطنية للأقوام الأخرى. ولكنه ليس بمحض الصدفة أن الديمقراطية على النمط الغربي جاءت متناسبة مع الرأسمالية الافتراسية وعقلية حرب الجميع ضد الجميع عند توماس هوبز وثم عندما انضوت تحت شعار البقاء للأصلح عند مالثوس وداروين التي كانت سائدة في بداية الدورة التاريخية.وحسب جون دون، لم يكن أحد يتكلم عن الديمقراطية باعتبارها صفة محببة أو مرغوبة للأشخاص أو الجماعات أو أنظمة الحكم قبل سنة 1780م. دخلت فكرة الديمقراطية في مفردات (نومنكلاتوا) الثورة الفرنسية لتجسيد قيمة الحرية، إحدى القيم الأزلية في سائر الحضارات المعروفة المتصلة بالديانات السماوية.كثيراً ما يتبجح الغربيون بأن الديمقراطية المطبقة في الغرب خلال الثلاثة قرون الأخيرة وصلت إلى الغرب من اليونان. هذا كلام مردود عليه، وينطوي على تزوير للتاريخ. الديمقراطية اليونانية ليست لها علاقة بما هو معروف الآن.الديمقراطية المباشرة اليونانية لم توفر لليونان عنفوان الإرادة أو الذخيرة الأيديولوجية لتقف في مواجهة الرومان. هل إمبراطورية الرومان كنظام سياسي وحضارة أقدر على البقاء من ديمقراطية اليونان.لماذا كل الذي نعرفه من تراث الديمقراطية عند اليونان جاءنا من مفكرين معادين للديمقراطية مثل أفلاطون وثيوسيدس. أفلاطون هرب من سيراكيوز (في صقلية) بروحه العزيزة (كما يقال) عندما كان مستشاراً لأميرها في تطبيق ديمقراطية أثينا، عندما تحولت الديمقراطية مصدر إزعاج له.إن ما هو مطبق في الغرب، الديمقراطية التمثيلية أو التوافقية لا تمت للديمقراطية بصلة. أما الديمقراطية المباشرة، كالشورى لا تصلح للمجتمعات الكبيرة الحجم والممتدة على مساحة جغرافية واسعة. ليس معنى ذلك أن الديمقراطية غير ممكنة من حيث المبدأ.ولكن الديمقراطية التمثيلية على النمط الغربي تقع ضحية سهلة للخداع والتزوير، وتصبح عرضة للتلاعب من قبل البيروقراطيات الكبيرة الحكومية وغير الحكومية.ويلعب المال والنفوذ والتنظيم دوراً كبيراً في تزوير إرادة الأقوام التي تريد أن تحكم نفسها بنفسها، ولكنها تصلح، إذا ما دخلت في مواجهة مع المعايير الوطنية للمجتمعات التقليدية، كأداة مثلى في زعزعة هذه المجتمعات وقيمها السياسية الحاكمة.وهذا بالضبط ما حصل عندما فرضت الديمقراطية التمثيلية (على النمط الغربي) على أقوام المستعمرات فهم اشتروا وهم الحرية الذي سوقه المستعمرون. والديمقراطية تسوق الآن لزعزعة المجتمعات المختلفة ـــ والهدف المباشر الحالي هو المشرق العربي الكبير.عندما وصلت الديمقراطية إلى الصين، إلى المملكة الوسطى، كانت إيذاناً بقيام مشكلة في كيفية التعامل مع البربرية الأوروبية وبشيرها الديمقراطية.يذكر جون دون أن تسي ـ جنتاو نشر مقالاً في مجلة الدراسات البربرية في 6 أكتوبر 1897 بعنوان التقدم الصيني، يقول فيه: “عندما تبدأ دورات التاريخ بالعمل، في مرحلة السلام السرمدي، فهي لن تقتصر على الغرب.ولا تستطيع الصين أن تتفاداها. أنا أعلم في أقل من مئة سنة، كل القارات الخمس ستكون تحت حكم الشعوب، وصيننا لن تستمر دون تغيير. هذا قانون لا يستطيع أحد أن يوقفه«. (والشيء نفسه يقال الآن عن العولمة).لقد أدركت أغلب أقوام العالم المتخلف حتمية المواجهة مع الغرب. وأدركت أن الغرب المنتصر ليس حريصاً على الديمقراطية، وأنما لصق صفة الديمقراطية بترتيبات الحكم التقليدية التي مكنت للنخبة الحاكمة أن تديم هيمنتها وللامبراطورية أن تزدهر.الدولة القومية والعنفالديمقراطية كما يفهمها الغرب اذن كانت سلاح الحداثة في الصراع التاريخي ضد المجتمعات التقليدية. وفي مرحلة الانتقال إلى الحداثة أن تحولت قبائل أوروبا إلى دول قومية.الديمقراطية على النمط الغربي تتطلب بالإضافة إلى مجتمعات قبلية صغيرة الحجم، مجتمعات متجانسة: جماعة وطنية تتشابه أغلبيتها في التركيب الأثني، والانتماء القبلي، إن لم يكن بالتماثل الطائفي (في مرحلة حروب الأديان). والأهم من ذلك توافر الشروط التي تسمح بظهور إجماع لنخبها المهيمنة وهنا يكمن مصدر التوافقية.ماذا يحصل إذا ما فرضت هذه الصيغة التوافقية على الدول غير القومية مثل الإمبراطوريات التقليدية العثمانية والهابسبورغ والصين والهند وسائر دول افريقيا؟ لقد انهارت جميعها.فتفككت دول البلقان واقتسم العالم المتخلف في مؤتمر باريس لسنة 1919 في أحد أكبر مهازل التاريخ، والذي مازالت أثاره المدمرة تستشري في الجسم السياسي العربي، وفي مجتمعات آسيا وافريقيا.ومازالت أقوام هذه المجتمعات تقتل على الحدود الوهمية على الأرض، والتي أعطيت صفة القدسية تتطلب الموت من أجلها.ومرة أخرى خدمت صيغة الدولة القومية القبلية (التعصب القومي) دوامة العنف المسلح والعدوانية التي ميزت الغرب عن بقية الأقوام. فالدولة القومية بجيوشها المحترفة الحديثة أكثر فاعلية في الحروب، في نشر الموت والدمار من الدول اللاقومية بجيوشها غير المحترفة التقليدية.الدولة القومية أصبحت الحجر الأساسي لنظام العلاقات بين الأقوام والدول. وقد اقترنت بمبدأ السيادة داخل حدود الإقليم على الأرض طوال القرون الثلاثة الماضية.ونحن الآن في نهاية دورة تاريخية، يواجه فيها مبدأ السيادة تحدياً حقيقياً بالتوجه الامبريالي إلى تقنين “تغير الأنظمة الحاكمة” في زمن البلطجة الأميركية في الربع الأخير من القرن العشرين.إلى مبدأ التدخل الامبريالي “للأغراض الحميدة” بإشراف حلف الناتو ومجلس الأمن الدولي.لقد أدخل مؤتمر باريس لسنة 1919 دول العالم المتخلف في شبكة علاقات الإمبراطورية. والدخول في شبكة علاقات الإمبراطورية أشبه بالمرض العضال.يحول جهاز الجسم المناعي إلى ضد الجسم نفسه. فكل مقومات المجتمعات اللاقومية، غير المتجانسة: كل مقومات المجتمع في التعددية الأثنية والتنوع الثقافي تتحول إلى أداة للهدم والتمزيق.وأشد فاعلية في زعزعة المجتمعات وحلحلة روابط الجماعة الوطنية ونسيجها الاجتماعي.وفي مجتمعات من هذا النوع يصبح من الصعب أن لم يكن من المستحيل الوصول إلى إجماع النخبة (القبول بقواعد اللعبة السياسية) الذي يضمن استقرارها وإجماع النخبة في الغرب أحد أسباب استقرار النظام السياسي، بالرغم من عدم ديمقراطيته، أو بغض النظر عن مدى ديمقراطيته.أنظر حولك في المشرق العربي الكبير، لا بل انظر حولك في العراق ولبنان وفلسطين (وأن شئت أن تتوسع: السودان، ومنطقة الخليج)، وسترى ماذا يحدث في حالة فقدان الإجماع لدى النخبة المهيمنة. جميع شرور الديمقراطية التمثيلية على النمط الغربي تتجسد فيما يحدث في هذه البلدان.ثم انظر أيضاً إلى كيف أن القرارات المهمة، وحتى المصيرية، تتخذ خارج قبة البرلمانات، في صفقات مصلحية فئوية، وأحياناً خاصة. ثم تذكر كيف أقر دستور العراق الدائم، وكيف جرت انتخابات لبنان لسنة 2005، ومدى فاعلية المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية.إن وجود التنظيمات السياسية الكبيرة الممولة جيداً، والبيروقراطيات التي تتحكم بالاقتصاد وبنثر المعلومات مسألة حيوية في المجتمعات المعولمة. ولكن هذه البيروقراطيات.كما علمنا ماكس فيبر تتناقض كلياً مع الديمقراطية الموثوقة أو الجديرة بالتصديق. في ظل تحكم البيروقراطيات بمصائر الأفراد، لا تعود الجماعة الوطنية مصدراً للقيم السياسية، وأساساً للمعايير الوطنية، وتصبح آلية الانتخابات طقساً من طقوس الديمقراطية على النمط الغربي.بل إن هناك من يقول ان الشعوب تمارس الديمقراطية يوماً واحداً في حفلة ماجنة كل أربع سنوات، وهو يوم الانتخابات ما لم تكن الانتخابات قد زورت قبل وقوعها. المصدر: مجلة البيان 14 نوفمبر 2005يمكن الاطلاع على جميع كتب ومنشورات الدكتور خلدون النقيب على الموقع التالي:https://www.khaldounalnaqeeb.com/ar/index.jsp
