إطلالة الطاهر لبيب
في مساحة تنشر فيها الجمعية نصوص ذات دلالة، اخترنا مقاربات قالها الطاهر لبيب يوماً…
الطاهر لبيب اول أمين عام للجمعية العربية لعلم الاجتماع، استاذ علم اجتماع الغزل، والرئيس الشرفي لملتقى أجيال علماء الاجتماع العرب:
إذا استثنينا بعض المجالات التي لها استمرار تاريخي كاللغة والآداب وإلى حد ما الفلسفة فإن العلوم الإنسانية عمومًا والاجتماعية بصورة خاصّة بقيت مدرسية تلقينيّة، في الأغلب، ولم تترسخ في المعرفة العربيّة كعلوم تحليلية نقديّة، وهذا لأسباب متنوعة يطول الحديث عنها. ومع الطفرة التكنولوجية حدثت هجرة واسعة إلى العلوم التطبيقيّة التي نادت بها أسواق العمل، ولم يبقَ في «الإنسانيات» إلّا ضعفاء الحال في المعرفة. وقد نتج عن هذا ما نلاحظه من تدنِّي مستوى العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات العربيّة. قد يقال: إن الظاهرة كونية، ولكن ننسى أن البلدان المتقدمة لها متاريس حصينة وقديمة في هذه العلوم، خلافًا للبلدان العربيّة التي فقدت فيها هذه العلوم حتى سلامة اللغة التي تسمح لها بأن تكون دقيقة. لا يمكن أن نوجد حلولًا لمسائل لا نفهمها فهمًا سليمًا. وإذا اعتبرنا التحديات المركّبة التي منها ما هو غير مألوف في العالم العربي فإن إعادة الاعتبار إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية تصبح ضرورة بديهيّة. إن المجتمعات العربية، وكذلك أنظمتها السياسية، هي الآن تدفع ثمن الجهل بذاتها الناتج عن تهميش أو إقصاء هذه العلوم، خارج معارفها. وإذا أمكن تدارك الوضع فلن يكون ذلك إلّا بناءً على قناعة وعلى قرار سياسي يعيد هيكلة التدريس وينشئ مؤسسات جديدة للبحث، بتصورات وإمكانات وآليات متطورة، وييسّر عمل الباحثين ويحفزهم إليه. هذا هو الحل الذي يتبادر تلقائيًّا إلى الذهن.
*********************
إيقاع الحركة الثقافية، رغم كل المبادرات الفكرية الفردية، لم يساير، في العالم العربي، إيقاع التغيّر في مستويات ومجالات أخرى، وهذا لأسباب سياسية ودينية بالدرجة الأولى. الحراك الثقافي مصدر ريبة عند كل الأنظمة العربية ويزداد حذرها منه بقدر ما يتجه نحو الإبداع الذي لا يخلو، بالضرورة، من «البدعة» الفنّية، على الأقل. شخصيًّا، أرى أن غياب مفهوم القطيعة في الثقافة العربية الإسلامية هو وراء كل العوامل الذهنيّة التي تعرقل المسار الثقافي العربي وتجعل انتكاسته ممكنة في كل لحظة. مقولة التراكم في الفكر العربي السائد مقولة ساذجة لا تتضمّن التجاوز، ولذلك يتناضد فيها كل شيء، وتتداخل فيها كل الأزمنة وكذلك كل الأنساق الفكرية والذهنية، من الأساطير والخرافات والشعوذات إلى أكثر المبادئ عقلانيةً. هذا ما نراه يتتابع ويتحاذى، يوميًّا، في القنوات والكتب والصحف. والواقع، كما أثبتت تجارب المجتمعات المتقدمة، أن التغيُّر الذي ينقل مجتمعًا من مرحلة إلى أخرى لا يكون من دون قطيعةٍ مع ثقافة وذهنيات مراحل سابقة. إن ظهور الكائنات المتوحشة الآتية من تخيلات القرون المظلمة لم يكن ممكنًا لولا التشبُّث السائد، في الحس المشترك، بماضٍ متخيَّل وغير تاريخي. هذا التشبث الساذج والعبثي، في أغلب حالاته، لا يتطلب أي مجهود معرفي؛ لأن الطريق إليه ميسَّرة ورصيده جاهز. ولهذا السبب يمكن أن يتجلى في أي بلد عربي، ولو بدرجات وأشكال مختلفة.
*********************
اللغة التي لا يتكلّمها أهلها أو يستغنون عنها بلغة أخرى هي لغة مآلها الاندثار. هذا مبدأ عام لا أرى سببًا مقنعًا لاستثناء اللغة العربية من الخضوع له. وإذا نظرنا إلى وضع اللغة العربية الفصحى نظرة ميدانية موضوعيّة فإن تراجعها، بل غيابها في فضاءات حيويّة، إضافةً إلى عدم الاكتراث بسلامتها، يؤشّر على توجّه نحو اندثارها. الاندثار يعني أنها لن تبقى، عمليًّا، لغة قوميّة أو وطنيّة، بل لغة فئة خاصة ومحدودة، هي في الجملة فئة مرتبطة بالمقدس. هذا ما حدث مثلًا للُّغة اللاتينية، وهذا هو المقصود، في نهاية الأمر، حين يقول بعضٌ بأنه لا خوف على العربية لأن القرآن يحفظها. صحيح أنه قد يحفظها، لكنه يحفظها لهذه الفئة لا للمجتمع، مثلما حفظها في بلدان إسلاميّة غير عربيّة. وفعلًا، هناك بلدان عربيّة لم يعد فيها وجود حقيقي للغة العربية خارج هذه الفئة وبعض المناسبات الرسميّة. لا أناقش ما هو مفروغ منه من ضرورات المعرفة باللغات الأجنبيّة وبخاصّة المعولمة منها كالإنجليزيّة، لكني أشير فقط إلى أن اللغة العربية الفصحى هي، كغيرها من اللغات، ستندثر إذا تواصل مسارها الحالي، وأن التغنّي بها وتمجيدها لن ينقذها من ذلك. لقد أشار طه حسين، قبل ستين سنة، إلى أن اللهجات قد تتحول إلى لغات، وأنه قد يأتي وقت يحتاج فيه التونسي، مثلًا، إلى من يترجم له ما يقول السعودي. المسألة مسألة وقت. المهم أن يدرك العرب ذلك، وأن يتحمل أصحاب القرار السياسي مسؤوليتهم التاريخيّة.
*********************
لا أحد يمكنه الشكّ في قدرة العربي على الإبداع. المشكلة هي في صعوبة انتقال هذه القدرة من القوة إلى الفعل، أي في عدم توافر ظروف الإبداع. من المفروغ منه أن الحريّة شرط أوّل للإبداع، وهي، في الجملة، محاصرة في البلدان العربيّة، سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، ولو بدرجات مختلفة. تتضح هذه المحاصرة عندما ننظر، لا إلى ما ينتجه المبدعون إنما إلى ما يتحاشون إنتاجه أو يُمنَعون من إنتاجه. الكثير مما ينتشر باسم الإبداع لا إبداع فيه؛ لأنه مجرد تغطية رسمية مبتذلة لهذه المحاصرة. كل مجالات المعرفة والحياة تتسع للإبداع، لكنها محدودة، عمليًّا، في العالم العربي لغياب الظروف المناسبة، لا من جهة الحريات فحسب، إنما أيضًا لغياب المؤسسات والقوانين والتمويلات الحافزة على ذلك. الإبداع العلمي، مثلًا، سواء كان في العلوم التطبيقية أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية غير ممكن من دون توافر هذه الظروف، ولذلك نلاحظ انحسارًا عامًّا نحو الإبداع الأدبي والفنّي؛ لأن فيه مرونة تستطيع، نسبيًّا، مواجهة الظروف الصعبة. الإبداع العربي سردي بالدرجة الأولى، وهو، بالمناسبة، الإبداع الوحيد الذي يُترجَم إلى لغات أخرى، أي أنه النمط الوحيد الذي يُعترَف بالإبداع العربي فيه. الإبداع هو إنتاج المعنى. هناك نصوص فكرية وأعمال أدبية وفنية عربيّة لها طابع ريادي أو تأسيسي، هذا لا شك فيه، ولكن الثقافة السائدة، عربيًّا، تنتج اللامعنى وتعيد إنتاجه. كل ما هو تكرار، وكل ما هو مفروغ منه، وكل ما هو لغة خشبية أو كلام فارغ لا ينتج المعنى، ورغم ذلك فهو السائد، للأسف. الثورة نفسها أعطت الكلام إلى من كانوا محرومين منه، لكنها لم تنتج خطابًا متماسكًا، ولم تقلّل من إنتاج اللامعنى.
