كلمة أمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع الدكتور محمد نعيم فرحات في ” افتتاحية مجلة إضافات العدد 42_43 التي تكثف ماهية الجمعية العربية نشأة وحضورا ودوراً:

بمقدورنا أن نغمز: جمعية، وعربية لعلم الاجتماع

إلى السوداني الكبير: حيدر إبراهيم ،الذي يرمق المرض منذ دهر وأكثر بصبر جميل ،لا صخب فيه ولا تراجع. والى آخرينيعرفهم ونعرفهم ويعرفونهم”.لكل فعل نقطة بداية في خيال ما، وفكرة الجمعية العربية لعلم الاجتماع تولدت عام 1985 في خيال رجل كان ينتمي بالسليقة ثم بالاختيار لاحقا ، لتخوم “العروبة الثقافية” وجمالاتها التي تظل رغم خيبات العرب المعاصرين “حجر الوادي الباقي”.صاحب الفكرة ، الطاهر لبيب، الأستاذ في علم اجتماع الغزل عند العرب، سليل “نجد سيدي مهذب” جنوب تونس، الذي كان محظوظا في تصفحه لعوالم مختلفة، ذهب نحو مأسسة الفكرة وتحويلها إلى كيان، وقد شاركه في الأمر، نخبة من أسماء عربية لامعة في ذلك الوقت، تنتمي لثلاثة عشر بلدا على الأقل، متخصصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن باب الاعتراف والإنصاف، فقد أغتنم الطاهر لبيب مناخا عروبيا ، كانت تعيشه تونس، إبان رئاسة محمد مزالي للحكومة، والبشير بن سلامه في وزارة الثقافة، لرسمنة وضع الجمعية .

***

بدأت الجمعية العربية في أخذ طريقها كجهد أهلي عربي بسيط، في لحظة مركبة، كانت تتبلور فيها ملامح، تشير لعملية تهميش منهجية متعددة الأطراف (داخلية وخارجية) تعرضت لها العلوم الاجتماعية والإنسانية عموما، مؤسساتيا ومن حيث الدور ، كعلوم أساسية لها مساهمة مهمة في “هندسة الوعي” الفردي والجمعي عند كل مجتمع تحكمه درجة معقولة من الرشد والنضوج، يعي اهمية إدماج المعرفة كقوة لها دور جبار في تحديد خيارته ومصائره وأقداره. أسفرت هذه العملية المتواصلة حتى ألان فيما أسفرت، عن تشويش كبير الم بهذه العلوم في اغلب المجتمعات العربية،وظهور “نواب فاعلين” صاروا بدل مفقود مُغيبٍ ومدحور هو “علماء وباحثين” أصحاب رؤى وتصورات، مشغولين بقضايا المعرفة وبإنشغالات الناس. كما تعرضت هذه العلوم لعملية تشويه سمعة مقصود وحط من قيمتها، وتم دحرها كي تصبح في نهاية سلم ترتيب العلوم، باعتبارها علوم لا جدوى، في مجتمعات كان أغلبها يشهد تحويل “وهم التنمية ” وخطابها المضلل، المجرد من أهم مستلزماته المعرفة الاجتماعية والإنسانية القادرة على قراءة المجتمعات ومشكلاتها والمساهمة في بناء أوضاعها وتوازناتها إلى هدف مجيد، لتجد- هذه المجتمعات – نفسها في حصيلة ذلك وجها لوجه مع حالة “تخلع ” وجداني وقيمي ومادي شبه شامل، و “مقتلة” تنمية بدون مخرجاتها المتوقعة أو الموعودة،و قد طلب منها أن تتحلى بالصبر والاستقالة من إمكانية السؤال أو فرضية التساؤل، وان تتعايش مع الخسارة المستدامة كقدر تنموي لا راد له!!!!

لقد كانت هذه اللحظة، أحدى التعبيرات المفزعة، لعجز العمل العربي القطري والمشترك – الرسمي وغير الرسمي معا- وفشله، عجز أنتجه تحالفات قامت بين “وعي قاصد” ومعوقات موضوعية ليست قليلة الشأن وعلل بنيوية توفرت بغزارة .

في هذا الإطار تسللت الجمعية العربية لعلم الاجتماع كي تقول شيئا أخر، لصالح المعرفة وخيرها وجمالها المجرب في حياة المجتمعات البشرية ، معتمدة على جهود القائمين عليها، وعلى أهلية الفكرة والحاجة لها ، و”بعض ” كرم “بعض” العرب ومؤسساتهم ، وطرحت في مؤتمرات وندوات ذات بال قضايا : المجتمع والدين والسياسة والتنمية وصورة الأخر، وحاولت جهدها قدر الإمكان للبحث في شاهد المجتمعات العربية وفي غيبها التاريخي، وتطرقت لكل شان كانت تطاله يدها وقدرتها وظروفها.

***

في عام 1989 ذهبت الجمعية نحو مدار مهم ، تمثل في عقد ملتقى سنوي لأجيال علماء الاجتماع العرب، كانت دورته الأولى في مدينة أغادير المغربية ، تقوم فكرته على التقاء نخبة من الباحثين العرب المتميزين في حقل علم الاجتماع وامتداداته الشاسعة من المرشحين لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه ، حيث يعرضون مشاريع أبحاثهم لنقاش مستفيض وعميق، بحضور نخبة من علماء الاجتماع العرب، وأحيانا كان الأمر يتم بحضور علماء اجتماع عجم.وبالنسبة لأغلب المشاركين كان الملتقى حدثا معرفيا شكل منعطفا في حياتهم الفكرية وفي خياراتهم.تواصل انعقاد الملتقى السنوي لواحد وعشرين دورة، وقد ساهم في انجاز ذلك بصورة أساسية “بعض” الكرم عند “بعض العرب” وتكرير العبارة هو من باب التأكيد على أهميتها في حياة الجمعية. وشارك في هذه الملتقيات أكثر من 500 باحث وباحثه من مختلف البلدان العربية، يحتل اغلبهم حاليا مواقع مرموقة في الحياة الأكاديمية وفي الشؤون العامة في مجتمعاتهم.

عرب كثيرون، لهم أسماء لامعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية على مدار خمسة وثلاثين عاما يصعب تعدادهم ، يعرفون أنفسهم، ونعرفهم، ويعرفهم كثيرون، مروا بالجمعية العربية لعلم الاجتماع، وكانوا جزءا مهما من ذاكرتها ومن تاريخها ومساهماتها.

***

في مقاربة ماكرة بالمعنى الايجابي والجميل للمكر يتحدث أحد الكتاب، عن حيلة “الغمز من وراء ظهر الغالب” كشكل من أشكال المقاومة والحضور والتعبير عن وجود قدرة “ما” تحت أي ظرف مهما كان صعبا وشاقا ، وباستعارة الفكرة من مدارات كاتبها، فإن الغالب في الحياة العربية المعاصرة قد كان عموما: الفشل والعجز والخيبة الموعودة والتحايل المخفق على الذات والواقع معا. وربما تكون تجربة الجمعية العربية لعلم الاجتماع( بعد ) تجربة مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ثم بمعيته ، من أجمل ” الغمزات” التي تمت من وراء ظهر العجز والفشل ومرادفاتهما ” كغالبين تحكموا في حياة العرب المعاصرين” وفي أحيان كثيرة كان الغمز يتم في عين الغالب مباشرة. جمعية قيضت لها جديتها وصدقيتها والتزامها ورعايات من هنا وهناك، أن تتواصل رغم بعض التعثر، وان تؤدي دورا ووظيفة مهمة، في أرفع الحقول وأجملها ، حقل المعرفة والتأهيل والتأطير وفتح أفق ما، والمساهمة في بناء وعي نخبة لها دور مهم ومساحات تأثير في أعماق الأفراد والمجتمعات، أو هكذا يفترض.

إن تجربة الجمعية العربية لعلم الاجتماع البسيطة ، لكن الجدية والمجدية والعميقة في آن، تقول دلالات كثيرة، من أهمها وجود إمكانية “ما” داخل أي سياق ” لغمزة” ما ، تثمر ” بعض” معرفة و”بعض” جمال، واستثمار إيجابي في ذاكرة قائمة وقادمة على نحو يستحق الانتباه والعناية والدعم ، وإحاطتها بكل أسباب التواصل وتوريثها لجيل صاعد قادم.

ربما يلتفت أحدا “ما” في جيل قادم ويقول : انتبهوا ،هناك من حاول فيمن سبقونا، على نحو فيه مغزىً ومعنىً يستحق التوقف والتقدير والمواصلة على نحو يمنع دابر الانقطاع من العمل.

محمد نعيم فرحات

الأمين العام للجمعية العربية لعلم الاجتماع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *